ميديا وفنون

“للموت” بصمة التغيير لكل ما هو سائد في عالم الدراما 

العمل مختلف، القصة مختلفة، الوجوه الكلمات الحوارات، كلها مختلفة. أن تتقلّب المرأة على صفيح جليد شبه عارية، تاركة قصرها المضاء لتنام في صقيع الليل لا شك إنها امرأة مشتعلة بألف نار.

أن يرقب الرجل زوجته وهي تغادر مخدعه وتتقوقع كقطة فوق ثلج الليل، ولا حوار ينفع ولا مال يشفع ولا اهتمام  يهز هذا الجمود والسكوت، لا شك أنّها امرأة مطعونة بألف سهم. امرأة متّقدة بالنار ولا شيء يطفئ نارها حتى ولو تراكمت ثلوج الدنيا على جسدها.

 

“للموت” حكاية حب يتشابك أبطالها في حوارات من روح أكثر منها من كلام. الأجساد تحكي هنا والملامح تبوح. الضياع لا يحتاج صوتاً حتى نعرفه يكفي أن ننظر في عينه لنستدلّ عليه. بؤبؤ الضياع واسع كأفق الليل والبطل “هادي” سيّد هذا الضياع.

رجل هائم تلفظه امرأته كل ليلة وتشيح عنه وجهاً وروحاً وجسداً بعد أن كان العشق جامعهما. لا شيء يشفع به سوى امرأة أخرى. التقاها في عز هيامه وبهتان رؤيته. التصقت به كظله، باتت مرآته. وليست أية امرأة، “سحر” ماغي بوغصن فهي هنا من النّوع الذي يطلي نفسه بالأنوثة كاملة، تمتشق عنقها سيفاً وتستعمل نظراتها مخرزاً وتشعل سيجارتها كأنها تود أن تحرق كل الشغف الذي يلفها. امرأة امتشقت كل أسلحتها وصوّبتها دون وجل ودون رحمة وعلقت مصيدتها كلاماً ودلالاً وشفاهاً وذكاءً وأوقعت به فريسة في فراشها. في ليلة  واحدة مع امرأة تجيد سن سكاكين الأنوثة، نسي الرجل زوجته وألمه وماضيه وبرده وبات نعجة مدجّنة بين يدي أخرى.

حكاية نادين جابر بأبطالها ماغي بوغصن ومحمد الأحمد ودانييلا رحمة. هي حكاية كل الأزواج والعاشقين والمحبين وحتى الحالمين بالحب. إنّها القتال المستمر في العلاقات بين شخص مخنوق لا يقدر على البوح وبين آخر لا يفهم ولا يجد أمامه سوى الخيانة شفاءً، ويتطوّر الحوار والعتاب ليصبح صاحب الحق محقوقاً وصاحب النزوة مغفوراً.  هكذا هي العلاقات دوماً على مرَ العصور، قتال داخلي خليط من وجع وحب وشغف وعدم فهم.

نادين جابر بقصّتها الجديدة التي نحت بعيداً عن كل ما هو سائد في عالم الدراما من قتل ودمار وحكايات عائلية واجتماعية، وأخذتنا هنا الى حكاية واحدة هي الحب بكل تفرعاته. جعلت الحب أساساً لكل العلاقات ومنه ينطلق الموت والفرح والتعاسة والوفاء ومعنى الغنى والفقر. إنّه الإبداع وسط زحمة التشابه. حكاية نعيشها دوماً وتكون أساس نبوغنا أو فشلنا أساس قهرنا أو سعادتنا. الحب هو الملاذ وهو السلاح وهو الخطيئة وهو الخلاص.

أما المخرج فيليب أسمر الذي عرف كيف يصوّر ويجمع في صورته روح الممثلين وتعابيرهم حول القصة الطرية الى مناخ مغناطيسي، وهو يدخل في أدق التفاصيل يخلق مشهدية توازي بصخبها روح الأبطال الهائمين والموجعين والمشغوفين. و”إيغل فيلمز” المنتجة للعمل، جريئة في هذا الخيار المغاير لكل ما هو سائد أن تطرح حكاية  تصوّر عادة على انها سطحية، لكنها بالحقيقة  هذا النوع من الدراما  ركيزته الإحساس والحلم وليس فقط الأحداث.

ماغي بوغصن تخلع كل أثوابها القديمة وتتخلى عن جلدها وتلبس ثوباً جديداً يبدو أنه شرير، لكن هناك تعاطف ما يأتي مع هذه الشخصية الحرة القوية النهمة الشغوفة المثيرة المتقدة. القادرة أن تحكي وتواجه وتطلب دون استيحاء ودون مواربة. فهي الأنثى الفجّة والرقيقة. هي الوقحة ولكنها ساحرة بذكائها. هي المرأة بكل تناقضاتها المحببة والمرفوضة. وهنا تكمن جمالية هذا الدور الرائع الذي يحكي عن العلاقة بين الرجل والمرأة وكل ما يتخلله من تناقضات مبرقعة بنعم ولا. بخيانة وولاء، بحب وكره، ماغي تقدّم كل ذلك بحرفية وهي الولهة التي اشعلتنا بولهها. هي الشخصية التي أنستنا من تكون. لم نعد نتعرّف عليها. إنّها مولودة من جديد في هذا العمل. نسينا طفولتها وطرافتها وبراءتها وبدأنا نشكّلها على أنّها أيقونة في مجال أخر تطرقه لأول مرة بهذه البلاغة وهذه القدرة الإبداعية.

دانييلا رحمة فتاة المغزى التي تجسد أهمية البوح وعمق الأسرار. إنها العاشقة المشتعلة وبنفس الوقت المجبرة أن تكون شيئا آخر فتتلطى بالبرودة والصمت والشرود. إنّها العاشقة الحزينة المحرّم عليها هذا العشق. تؤدي دورها متألفة مع الطبيعة ببرودتها وقساوتها وصمتها. كل امرأة في الأرض فيها شيء من هذا الدور. أي الحب المحرم والاشتعال غير الظاهر والوجع الصامت. دانييلا  نجحت في جعل نفسها صورة تشبه العديد من النساء اللواتي يعانين بصمت.

“للموت” عمل يقوم على الحب بكل تشكلاته وتفرعاته. عمل كتب في ضوء قمر بعيداً عن هذا العالم المشحون بالمادية. فالبقال العجوز “احمد الزين” بروحه العالية  هنا مغروم بسيدة الحي الكهلة رندا كعدي،  والمراهقة تغادر بيتها لتلتقي في السقيفة بحبيبها المتيم الذي يهديها باقة بقدونس على شكل وردة، والزوجة المتعبة كارول عبود التي تدخل كل يوم في مشادة مع زوجها لتسديد الفواتير. وخالد القيش الذي يأكله الحزن لفراق زوجته التي انتحرت.

عمل يحكي عن العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة بكل تخبطاتها. عمل ستضح معالمه أكثر ودروسه أكثر ليسنّ لنا حقائق جديدة ربما أو رتيبة وتقليدية فيكون الحب مثلاً يتمثّل فقط بالإخلاص الجنسي. أو يكون ساحة حرب ومن الحب ما قتل، أو يكون تطهراً أو تفانياً.

“للموت” عمل لا يحتاج تفكيراً يحتاج مشاهدة والأطال كفيلون بنقلنا الى ساحة العزاء والتّماهي والشّغف.

كمال طنوس

كاتبة وصحافية لبنانية لاكثر من 25 عاماً في العديد من الصحف العربية كمجلة اليقظة الكويتية وجريدة الاهرام وجريدة الاتحاد وزهرة الخليج .كما تعد برامج تلفزيونية وتحمل دبلوما في الاعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى